سورة الأنبياء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


هذا استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة، ودلالة على تنزيهه عن الشريك، وتوكيد لما تقدم من أدلة التوحيد، ورد على عبدة الأوثان من حيث إنّ الإله القادر على هذه المخلوقات المتصرف فيها التصرف العجيب، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع والرؤية هنا من رؤية القلب. وقيل: من رؤية البصر وذلك على الاختلاف في الرتق والفتق. وقرأ ابن كثير وحميد وابن محيصن ألم يَرَ بغير واو العطف والجمهور {أو لم} بالواو. {كانتا} قال الزجاج: السموات جمع أريد به الواحد، ولهذا قال {كانتا رتقاً} لأنه أراد السماء والأرض، ومنه أن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا جعل السموات نوعاً والأرضين نوعاً، فأخبر عن النوعين كما أخبر عن اثنين كما تقول: أصلحت بين القوم ومر بنا غنمان أسودان لقطيعي غنم. وقال الحوفي: قال {كانتا رتقاً} والسموات جمع لأنه أراد الصنفين، ومنه قول الأسود بن يعفر:
إن المنية والحتوف كلاهما *** يوفي المحارم يرقبان سوادي
لأنه أراد النوعين. وقال أبو البقاء: الضمير يعود على الجنسين. وقال الزمخشري: وإنما قال {كانتا} دون كنّ لأن المراد جماعة {السموات} وجماعة {الأرض} ونحوه قولهم: لقاحان سوداوان إن أراد جماعتان فعل في المضمر ما فعل في المظهر. وقال ابن عطية: وقال {كانتا} من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شييم:
ألم يحزنك أن جبال قيس *** وتغلب قد تباينت انقطاعا
قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: كانتا شيئاً واحداً ففصل الله بينهما بالهواء. وقال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحاً بوسطها ففتحها بها وجعل السموات سبعاً والأرضين سبعاً. وقال مجاهد والسدّي وأبو صالح: كانت السموات والأرض مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضون كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبعاً. وقالت فرقة: السموات والأرض رتق بالظلمة وفتقها الله بالضوء. وقالت فرقة: السماء قبل المطر رتق، والأرض قبل النبات رتق {ففتقناهما} بالمطر والنبات كما قال {والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع} قال ابن عطية: وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة للمحسوس بين، ويناسب قوله {وجعلنا من الماء كل شيء حيّ} أي من الماء الذي أوجده الفتق انتهى.
وعلى هذين القولين تكون الرؤية من البصر وعلى ما قبلهما من رؤية القلب، وجاء تقريرهم بذلك لأنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد، ولأن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من مخصص، وهو الله سبحانه وقرأ الجمهور {رتْقاً} بسكون التاء وهو مصدر يوصف به كزور وعدل فوقع خبراً للمثنى.
وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وأبو حيوة وعيسى {رتقاً} بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالقبض والنفض، فكان قياسه أن يبني ليطابق الخبر الاسم. فقال الزمخشري: هو على تقدير موصوف أي {كانتا} شيئاً {رتقاً}. وقال أبو الفضل الرازي: الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسماً بمعنى المفعول والساكن مصدر، أو قد يكونان مصدرين لكن المتحرك أولى بأن يكون في معنى المفعول لكن هنا الأولى أن يكونا مصدرين فأقيم كل واحد منهما مقام المفعولين، ألا ترى أنه قال {كانتا رتقاً} فلو جعلت أحدهما اسماً لوجب أن تثنيه فلما قال {رتقاً} كان في الوجهين كرجل عدل ورجلين عدل وقوم عدل انتهى.
{وجعلنا} إن تعدت لواحد كانت بمعنى وخلقنا من الماء كل حيوان أي مادته النطفة قاله قطرب وجماعة أو لما كان قوامه الماء المشروب وكان محتاجاً إليه لا يصبر عنه جعل مخلوقاً منه كقوله {خلق الإنسان من عجل} قاله الكلبي وغيره، وتكون الحياة على هذا حقيقة ويكون كل شيء عاماً مخصوصاً إذ خرج منه الملائكة والجن وليسوا مخلوقين من نطفة ولا محتاجين للماء.
وقال قتادة: أي خلقنا كل نام من الماء فيدخل فيه النبات والمعدن، وتكون الحياة فيهما مجازاً أو عبر بالحياة عن القدر المشترك بينهما وبين الحيوان وهو النموّ ويكون أيضاً على هذا عاماً مخصوصاً، وإن تعدّت {جعلنا} لاثنين فالمعنى صيرنا {كل شيء حي} بسبب من الماء لا بد له منه. وقرأ الجمهور {حي} بالخفض صفة لشيء. وقرأ حميد حياً بالنصب مفعولاً ثانياً لجعلنا، والجار والمجرور لغو أي ليس مفعولاً ثانياً ل {جعلنا} {أفلا يؤمنون} استفهام إنكار وفيه معنى التعجب من ضعف عقولهم، والمعنى أفلا يتدبرون هذه الأدلة ويعملوا بمقتضاها ويتركوا طريقة الشرك، وأطلق الإيمان على سببه وقد انتظمت هذه الآية دليلين من دلائل التوحيد وهي من الأدلة السماوية والأرضية.
ثم ذكر دليلاً آخر من الدلائل الأرضية فقال: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم} وتقدم شرح نظير هذه الجملة في سورة النحل {وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً} وهذا دليل رابع من الدلائل الأرضية، والظاهر أن الضمير في {فيها} عائد على الأرض. وقيل يعود على الرواسي، وجاء هنا تقديم {فجاجاً} على قوله {سبلاً} وفي سورة نوح {لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً} فقال الزمخشري: وهي يعني {فجاجاً} صفة ولكن جعلت حالاً كقوله:
لمية موحشاً طلل ***
يعني أنها حال من سبل وهي نكرة، فلو تأخر {فجاجاً} لكان صفة كما في تلك الآية ولكن تقدم فانتصب على الحال قال: فإن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت: وجهان أحدهما إعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة، والثاني بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة انتهى. يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفاً به حالة الإخبار عنه، وإن كان الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه، ألا ترى أنه يقال: مررت بوحشي القاتل حمزة، فحالة المرور لم يكن قائماً به قتل حمزة، وأما الحال فهي هيئة ما تخبر عنه حالة لإخبار {لعلهم يهتدون} في مسالكهم وتصرّفهم.
وما رفع وسمك على شيء فهو سقف. قال قتادة: حفظ من البلى والتغير على طول الدهر. وقيل: حفظ من السقوط لإمساكه من غير علاقة ولا عماد. وقيل: حفظ من الشرك والمعاصي. وقال الفراء: حفظ من الشياطين بالرجوم. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء فقال: «إن السماء سقف مرفوع وموج مكفوف يجري كما يجري السهم محفوظاً من الشياطين» وإذا صح هذا الحديث كان نصاً في معنى الآية.
{وهم عن آياتها} أي عن ما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس والقمر وسائر النيرات ومسايرها وطلوعها وغروبها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة. وقرأ الجمهور {عن آياتها} بالجمع. وقرأ مجاهد وحميد عن آيتها بالإفراد، فيجوز أنه جعل الجعل أو السقف أو الخلق أي خلق السماء آية واحدة تحوي الآيات كلها، ويجوز أنه أراد بها الجمع فجعلها اسم الجنس، ودل على ذلك كثرة ما في السماء من الآيات. والمعنى {وهم عن} الاعتبار بآياتها {معرضون} وقال الزمخشري: هم يتفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنياوية كالاستضاءة بقمريها والاهتداء بكواكبها وحياة الأرض والحيوان بأمطارها {وهم عن} كونها آية بينة على الخالق {معرضون}.
والتنوين في {كلٌّ} عوض من المضاف إليه، والفلك الجسم الدائر دورة اليوم والليلة. وعن ابن عباس والسدّي: الفلك السماء. وقال أكثر المفسرين: الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر. وقال قتادة: الفلك استدارة بين السماء والأرض يدور بالنجوم مع ثبوت السماء. وقيل: الفلك القطب الذي تدور عليه النجوم وهو قطب الشمال. وقيل: لكل واحد من السيارات فلك، وفلك الأفلاك يحركها حركة واحدة من المشرق إلى المغرب. وقال الضحاك: الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم، والظاهر أنه جسم وفيه الاختلاف المذكور والظاهر أن كلاًّ يسبح في فلك واحد. قيل: ولكل واحد فلك يخصه فهو كقولهم: كساهم الأمير حلة أي كسى كل واحد، وجاء {يسبحون} بواو الجمع العاقل، فأما الجمع فقيل ثم معطوف محذوف وهو والنجوم، ولذلك عاد الضمير مجموعاً ولو لم يكن ثم معطوف محذوف لكان يسبحان مثنى.
وقال الزمخشري: الضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار، وإلاّ فالشمس واحدة والقمر واحد انتهى. وحسن ذلك كونه جاء فاصلة رأس آية، وأما كونه ضمير من يعقل ولم يكن التركيب يسبحن.
فقال الفراء: لما كانت السباحة من أفعال الآدميين جاء ما أسند إليهما مجموعاً من يعقل كقوله {رأيتهم لي ساجدين} قال أبو عبد الله الرازي: وعلى قول أبي عليّ بن سينا سبب ذلك أنها عنده تعقل انتهى. وهذه الجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار فلا محل لها، أو محلها النصب على الحال من {الشمس والقمر} لأن {الليل والنهار} لا يتصفان بأنهما يجريان {في فلك} فهو كقولك: رأيت زيداً وهنداً متبرجة والسباحة: العوم والذي يدل عليه الظاهر أن الشمس والقمر هما اللذان يجريان في الفلك، وأن الفلك لا يجري.
{وما جعلنا} الآية. قيل: إن بعض المسلمين قال: إن محمداً لن يموت وإنما هو مخلد، فأنكر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: طعن كفار مكة عليه بأنه بشر يأكل الطعام ويموت فكيف يصح إرساله. وقال الزمخشري: كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة بهذا أي قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشراً فلا أنت ولا هم إلاّ عرضة للموت فإن مت أيبقى هؤلاء؟ وفي معناه قول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت *** فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى *** تزود لأخرى مثلها فكأن قد
وقول الآخر:
فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون كما لقينا
والفاء في {أفإن متّ} للعطف قدّمت عليها همزة الاستفهام لأن الاستفهام له صدر الكلام، دخلت على إن الشرطية والجملة بعدها جواب للشرط، وليست مصب الاستفهام فتكون الهمزة داخلة عليها، واعترض الشرط بينهما فحذف جوابه هذا مذهب سيبويه. وزعم يونس أن تلك الجملة هي مصب الاستفهام والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف. قال ابن عطية: وألف الاستفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط انتهى. وفي هذه الآية دليل لمذهب سيبويه إذ لو كان على ما زعم يونس لكان التركيب {أفإن مت} هم {الخالدون} بغير فاء، وللمذهبين تقرير في علم النحو.
{كل نفس ذائقة الموت} تقدم تفسير هذه الجملة {ونبلوكم} نختبركم وقدم الشر لأن الابتلاء به أكثر، ولأن العرب تقدم الأقل والأردأ، ومنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات. وعن ابن عباس: الخير والشر هنا عام في الغنى والفقر، والصحة والمرض، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال. قال ابن عطية: هذان الأخيران ليسا داخلين في هذا لأن من هدى فليس هذه اختياراً ولا من أطاع. بل قد تبين خيره. والظاهر أن المراد من الخير والشر هنا كل ما صح أن يكون فتنة وابتلاء انتهى. وعن ابن عباس أيضاً: بالشدة والرخاء أتصبرون على الشدة وتشكرون على الرخاء أم لا. وقال الضحاك: الفقر والمرض والغنى والصحة. وقال ابن زيد: المحبوب والمكروه، وانتصب {فتنة} على أنه مفعول له أو مصدر في موضع الحال، أو مصدر من معنى {نبلوكم} {وإلينا ترجعون} فنجازيكم على ما صدر منكم في حالة الابتلاء من الصبر والشكر، وفي غير الابتلاء. وقرأ الجمهور {تُرجعون} بتاء الخطاب مبنياً للمفعول. وقرأت فرقة بالتاء مفتوحة مبنياً للفاعل. وقرأت فرقة بضم الياء للغيبة مبنياً للمفعول على سبيل الالتفات.


قال السدّي ومقاتل: مرّ الرسول عليه الصلاة والسلام بأبي جهل وأبي سفيان، فقال أبو جهل: هذا نبي عبد مناف، فقال أبو سفيان: وما تنكرون أن يكون نبياً في بني عبد مناف، فسمعهما الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لأبي جهل: «ما تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية» فنزلت.
ولما كان الكفار يغمهم ذكر آلهتهم بسوء شرعوا في الاستهزاء وتنقيص من يذكرهم على سبيل المقابلة و{إن} نافية بمعنى ما، والظاهر أن جواب {إذا} هو {إن يتخذونك} وجواب إذا بإن النافية لم يرد منه في القرآن إلا هذا وقوله في القرآن {وإذا رأوك إن يتخذونك إلاّ هزواً} ولم يحتج إلى الفاء في الجواب كما لم تحتج إليه ما إذا وقعت جواباً كقوله {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} ما كان حجتهم بخلاف أدوات الشرط، فإنها إذا كان الجواب مصدراً بما النافية فلا بد من الفاء، نحو إن تزورنا فما نسيء إليك. وفي الجواب لاذا بأن وما النافيتين دليل واضح على أن {إذا} ليست معمولة للجواب، بل العامل فيها الفعل الذي يليها وليست مضافة للجملة خلافاً لأكثر النحاة. وقد استدللنا على ذلك بغير هذا من الأدلة في شرح التسهيل.
وقيل: جواب {إذا} محذوف وهو يقولون المحكي به قولهم {أهذا الذي يذكر آلهتكم} وقوله {إن يتخذونك إلاّ هزواً} كلام معترض بين {إذا} وجوابه و{يتخذونك} يتعدى إلى اثنين، والثاني {هزواً} أي مهزوأ به، وهذا استفهام فيه إنكار وتعجيب. والذكر يكون بالخير وبالشر، فإذا لم يذكر متعلقه فالقرينة تدل عليه، فإن كان من صديق فالذكر ثناء أو من غيره فذم، ومنه {سمعنا فتى يذكرهم} أي بسوء، وكذلك هنا {أهذا الذي يذكر آلهتكم}.
ثم نعى عليه إنكارهم عليه ذكر آلهتهم بهذه الجملة الحالية وهي {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} أي ينكرون وهذه حالهم يكفرون بذكر الرحمن، وهو ما أنزل من القرآن فمن هذه حاله لا ينبغي أن ينكر على من يغيب آلهتهم، والظاهر أن هذه الجملة حال من الضمير في يقولون المحذوف.
وقال الزمخشري: والجملة في موضع الحال أي {يتخذونك هزواً} وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله انتهى. فجعل الجملة الحالية العامل فيها {يتخذونك هزواً} المحذوفة وكررهم على سبيل التوكيد. وروي أنها نزلت حين أنكروا لفظة {الرحمن} وقالوا: ما نعرف الرحمن إلاّ في اليمامة، والمراد بالرحمن هنا الله، كأنه قيل {وهم بذكر} الله ولما كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإقرار والعلم نهاهم تعالى عن الاستعجال وقدم أولاً ذم {الإنسان} على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها، والظاهر أنه يراد بالإنسان هنا اسم الجنس وكونه {خلق} {من عجل} وهو على سبيل المبالغة لما كان يصدر منه كثيراً.
كما يقول لمكثر اللعب أنت من لعب، وفي الحديث «لست من دد ولا دد مني» وقال الشاعر:
وإنّا لمما يضرب الكبش ضربة *** على رأسه تلقى اللسان من الفم
لما كانوا أهل ضرب الهام وملازمة الحرب قال: إنهم من الضرب، وبهذا التأويل يتم معنى الآية ويترتب عليه قوله {سأريكم آياتي} أي آيات الوعيد {فلا تستعجلون} في رؤيتكم العذاب الذي تستعجلون به، ومن يدعي القلب فيه وهو أبو عمرو وإن التقدير خلق العجل من الإنسان وكذا قراءة عبد الله على معنى أنه جعل طبيعة من طبائعه وجزأ من أخلاقه، فليس قوله بجيد لأن القلب الصحيح فيه أن لا يكون في كلام فصيح وإن بابه الشعر. قيل: فمما جاء في الكلام من ذلك قول العرب: إذا طلعت الشعرى استوى العود على الحر باء. وقالوا: عرضت الناقة على الحوض وفي الشعر قوله:
حسرت كفي عن السربال آخذه ***
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدّي والضحاك ومقاتل والكلبي {الإنسان} هنا آدم. قال مجاهد: لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال: يا رب عجل تمام خلقي قبل أن تغيب الشمس. وقال سعيد: لما بلغت الروح ركبتيه كاد يقوم فقال الله {خلق الإنسان من عجل}. وقال ابن زيد: خلقه الله يوم الجمعة على عجلة في خلقه. وقال الأخفش {من عجل} لأن الله قال له كن فكان. وقال الحسن: {من عجل} أي ضعيف يعني النطفة. وقيل: خلق بسرعة وتعجيل على غير تريب الآدميين من النطفة والعلقة والمضغة، وهذا يرجع لقول الأخفش. وقيل: {من عجل} من طين والعجل بلغة حمير الطين. وأنشد أبو عبيدة لبعض الحميريين:
النبع في الصخرة الصماء منبته *** والنخل منبته في الماء والعجل
وقيل: {الإنسان} هنا النضر بن الحارث والذي ينبغي أن تحمل الآية عليه هو القول الأول وهو الذي يناسب آخرها. والآيات هنا قيل: الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، أي يأتيكم في وقته. وقيل: أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل: آثار القرون الماضية بالشام واليمن، والقول الأول أليق أي سيأتي ما يسوؤكم إذا دمتم على كفركم، كأنه يريد يوم بدر وغيره في الدنيا وفي الآخرة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله {خلق الإنسان من عجل} وقوله {وكان الإنسان عجولاً} أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت: هذا كما ركب فيه من الشهوة وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة انتهى. وهو على طريق الاعتزال.
وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم {خَلَقَ} مبنياً للفاعل {الإنسان} بالنصب أي {خلق} الله {الإنسان} وقوله {متى هذا الوعد} استفهام على جهة الهزء، وكان المسلمون يتوعدونهم على لسان الشرع و{متى} في موضع الجر لهذا فموضعه دفع، ونقل عن بعض الكوفيين أن موضع {متى} نصب على الظرف والعامل فيه فعل مقدر تقديره يكون أو يجيء، وجواب {لو} محذوف لدلالة الكلام عليه، وحذفه أبلغ وأهيب من النص عليه فقدره ابن عطية لما استعجلوا ونحوه، وقدره الزمخشري لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال.
وقيل: لعلموا صحة البعث. وقيل: لعلموا صحة الموعود. وقال الحوفي: لسارعوا إلى الإيمان. وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة وحين يراد به وقت الساعة يدل على ذلك، بل تأتيهم بغتة انتهى.
و {حين} قال الزمخشري: مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يستعجلون عنه بقولهم {متى هذا الوعد} وهو وقت صعب شديد تحيط بهم النار من وراء وقدام، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم. قال: ويجوز أن يكون {يعلم} متروكاً فلا تعدية بمعنى {لو} كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين، و{حين} منصوب بمضمر أي {حين لا يكفون عن وجوههم النار} يعلمون أنهم كانوا على الباطل، وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم أي لا يكفونها انتهى. والذي يظهر أن مفعول {يعلم} محذوف لدلالة ما قبله أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستنبطوه. و{حين} منصوب بالمفعول الذي هو مجيء ويجوز أن يكون من باب الإعمال على حذف مضاف، وأعمل الثاني والمعنى لو يعلمون مباشرة النار حين لا يكفونها عن وجوههم، وذكر الوجوه لأنها أشرف ما في الإنسان وعجل حواسه، والإنسان أحرص على الدفاع عنه من غيره من أعضائه، ثم عطف عليها الظهور والمراد عموم النار لجميع أبدانهم ولا أحد يمنعهم من العذاب {بل تأتيهم بغتة} أي تفجؤهم. قال ابن عطية {بل تأتيهم} استدراك مقدر قبله نفي تقديره إن الآيات لا تأتي بحسب اقتراحهم انتهى. والظاهر أن الضمير في {تأتيهم} عائد على النار: وقيل: على الساعة التي تصبرهم إلى العذاب. وقيل: على العقوبة. وقال الزمخشري: في عود الضمير إلى النار أو إلى الوعد لأنه في معنى النار وهي التي وعدوها، أو على تأويل العدة والموعدة أو إلى الحين لأنه في معنى الساعة أو إلى البعثة انتهى.
وقرأ الأعمش بل يأتيهم بالياء بغتة بفتح الغين فيبهتهم بالياء والضمير عائد إلى الوعد أو الحين قاله الزمخشري. وقال أبو الفضل الرازي: لعله جعل النار بمعنى العذاب فذكر ثم رد ردّها إلى ظاهر اللفظ {ولا هم ينظرون} أي يؤخرون عما حل بهم، ولما تقدم قوله {إن يتخذونك إلاّ هزواً} سلاه تعالى بأن من تقدمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم، وأن ثمرة استهزائهم جنوها هلاكاً وعقاباً في الدنيا والآخرة، فكذلك حال هؤلاء المستهزئين.
وتقدم تفسير مثل هذه الآية في الأنعام.
ثم أمره تعالى أن يسألهم من الذي يحفظكم في أوقاتكم من بأس الله أي لا أحد يحفظكم منه، وهو استفهام تقريع وتوبيخ. وفي آخر الكلام تقدير محذوف كأنه ليس لهم مانع ولا كالئ، وعلى هذا النفي تركيب بل في قوله {بل هم عن ذكر ربهم معرضون} قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: بل هم معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ وصلحوا للسؤال عنه، والمراد أنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ ثم بيّن أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم انتهى. وقرأ أبو جعفر والزهري وشيبة: يكلُوكم بضمة خفيفة من غير همز. وحكى الكسائي والفراء يكلَوكم بفتح اللام وإسكان الواو.
{أم لهم آلهة} بمعنى بل، والهمزة كأنه قيل بل ألهم آلهة فأضرب ثم استفهم {تمنعهم} من العذاب. وقال الحوفي {من دوننا} متعلق بتمنعهم انتهى. قيل: والمعنى ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز من أن ينالهم مكروه من جهتنا. وقال ابن عباس: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم تقول: منعت دونه كففت أذاه فمن دوننا هو من صلة {آلهة} أي أم لهم آلهة دوننا أو من صلة {تمنعهم} أي {أم لهم} مانع من سوانا. ثم استأنف الإخبار عن آلهتهم فبيَّن أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره؟ وقال ابن عباس {يصحبون} يمنعون. وقال مجاهد: ينصرون. وقال قتادة: لا يصحبون من الله بخير. وقال الشاعر:
ينادي بأعلى صوته متعوذاً *** ليصحب منا والرماح دوان
وقال مجاهد: يحفظون. وقال السدّي: لا يصحبهم من الملائكة من يدفع عنهم، والظاهر عود الضمير في {ولا هم} على الأصنام وهو قول قتادة. وقيل: على الكفار وهو قول ابن عباس، وفي التحرير مدار هذه الكلمة يعني {يصحبون} على معنيين أحدهما أنه من صحب يصحب، والثاني من الإصحاب أصحب الرجل منعه من الآفات.


{هؤلاء} إشارة إلى المخاطبين قبل وهم كفار قريش، ومن اتخذ آلهة من دون الله أخبر تعالى أنه متع {هؤلاء} الكفار {وآباءهم} من قبلهم بما رزقهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة، وتدعسوا في الضلالة بإمهاله تعالى إياهم وتأخيرهم إلى الوقت الذي يأخذهم فيه {أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون} تقدم تفسير هذه الجملة في آخر الرعد. واقتصر الزمخشري من تلك الأقوال على معنى أنّا ننقص أرض الكفر ودار الحرب ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام قال: فإن قلت: أي فائدة في قوله {نأتي الأرض}؟ قلت: الفائدة فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها انتهى. وفي ذلك تبشير للمؤمنين بما يفتح الله عليهم، وأكثر المفسرين على أنها نزلت في كفار مكة وفي قولهم: {أفهم الغالبون} دليل على ذلك إذ المعنى أنهم هم الغالبون، فهو استفهام فيه تقريع وتوبيخ حيث لم يعتبروا بما يجري عليهم.
ثم أمره تعالى أن يقول {إنما أنذركم بالوحي} أي أعلمكم بما تخافون منه بوحي من الله لا من تلقاء نفسي، وما كان من جهة الله فهو الصدق الواقع لا محالة كما رأيتم بالعيان من نقصان الأرض من أطرافها، ثم أخبر أنهم مع إنذارهم معرضون عما أنذروا به فالإنذار لا يجدي فيهم إذ هم صم عن سماعه. ولما كان الوحي من المسموعات كان ذكر الصمم مناسباً و{الصم} هم المنذرون، فأل فيه للعهد وناب الظاهر مناب المضمر لأن فيه التصريح بتصامهم وسد أسماعهم إذا أنذروا، ولم يكن الضمير ليفيد هذا المعنى ونفي السماع هنا نفي جدواه.
وقرأ الجمهور {يَسمع} بفتح الياء والميم {الصم} رفع به و{الدعاء} نصب. وقرأ ابن عامر وابن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص بالتاء من فوق مضمومة وكسر الميم {الصم الدعاء} بنصبهما والفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. وقرأ كذلك إلا أنه بالياء من نحت أي {ولا يسمع} الرسول وعنه أيضاً {ولا يسمع} مبنياً للمفعول {الصم} رفع به ذكره ابن خالويه. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو {يُسمِع} بضم الياء وكسر الميم {الصم} نصباً {الدعاء} رفعاً بيسمع، أسند الفعل إلى الدعاء اتساعاً والمفعول الثاني محذوف، كأنه قيل: ولا يسمع النداء الصم شيئاً.
ثم أخبر تعالى أن هؤلاء الذين صموا عن سماع ما أنذروا به إذا نالهم شيء مما أنذروا به، ولو كان يسيراً نادوا بالهلاك وأقروا بأنهم كانوا ظالمين، نبهوا على العلة التي أوجبت لهم العذاب وهو ظلم الكفر وذلوا وأذعنوا.
قال ابن عباس: {نفحة} طرف وعنه هو الجوع الذي نزل بمكة. وقال ابن جريج: نصيب من قولهم نفح له من العطاء نفحة إذا أعطاه نصيباً وفي قوله {ولئن مستهم نفحة} ثلاث مبالغات لفظ المس، وما في مدلول النفح من القلة إذ هو الربح اليسير أو ما يرضخ من العطية، وبناء المرة منه ولم يأت نفح فالمعنى أنه بأدنى إصابة من أقل العذاب أذعنوا وخضعوا وأقروا بأن سبب ذلك ظلمهم السابق.
ولما ذكر حالهم في الدنيا إذا أصيبوا بشيء استطرد لما يكون في الآخرة التي هي مقر الثواب والعقاب، فأخبر تعالى عن عدله وأسند ذلك إلى نفسه بنون العظمة فقال {ونضع الموازين} وتقدم الكلام في الموازين في أول الأعراف، واختلاف الناس في ذلك هل ثم ميزان حقيقة وهو قول الجمهور أو ذلك على سبيل التمثيل عن المبالغة في العدل التام وهو قول الضحاك وقتادة؟ قالا: ليس ثم ميزان ولكنه العدل والقسط مصدر وصفت به الموازين مبالغة كأنها جعلت في أنفسها القسط، أو على حذف مضاف أي ذوات {القسط} ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله أي لأجل {القسط}. وقرئ القصط بالصاد. واللام في {ليوم القيامة} قال الزمخشري: مثلها في قولك: جئت لخمس ليال خلون من الشهر. ومنه بيت النابغة:
ترسمت آيات لها فعرفتها *** لستة أعوام وذا العام سابع
انتهى. وذهب الكوفيون إلى أن اللام تكون بمعنى في ووافقهم ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من أصحابنا المتأخرين، وجعل من ذلك قوله {القسط ليوم القيامة} أي في يوم، وكذلك لا يجليها لوقتها إلاّ هو أي في وقتها وأنشد شاهداً على ذلك لمسكين الدارمي:
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم *** كما قد مضى من قبل عاد وتبع
وقول الآخر:
وكل أب وابن وإن عمرا معاً *** مقيمين مفقود لوقت وفاقد
وقيل اللام هنا للتعليل على حذف مضاف، أي لحساب يوم القيامة و{شيئاً} مفعول ثان أو مصدر.
وقرأ الجمهور: {مثقال} بالنصب خبر {كان} أي وإن كان الشيء أو وإن كان العمل وكذا في لقمان، وقرأ زيد بن عليّ وأبو جعفر وشيبة ونافع {مثقال} بالرفع على الفاعلية و{كان} تامة. وقرأ الجمهور {أتينا} من الإتيان أي جئنا بها، وكذا قرأ أُبي أعني جئنا وكأنه تفسير لأتينا. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني آتينا بمده على وزن فاعلنا من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة، فمعناه جازينا بها ولذلك تعدى بحرف جر، ولو كان على أفعلنا من الإيتاء بالمد على ما توهمه بعضهم لتعدى مطلقاً دون جاز قاله أبو الفضل الرّازي.
وقال الزمخشري: مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء انتهى.
وقال ابن عطية على معنى: و{أتينا} من المواتاة، ولو كان آتينا أعطينا لما تعدت بحرف جرّ، ويوهن هذه القراءة أن بدل الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف، وإنما يعرف ذلك في المضمومة والمكسورة انتهى. وقرأ حميد: أثبنا بها من الثواب وأنث الضمير في {بها} وهو عائد على مذكر وهو {مثقال} لإضافته إلى مؤنث {كفى بنا حاسبين} فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب وهو العدّ والإحصاء، والمعنى أنه لا يغيب عنا شيء من أعمالهم. وقيل: هو كناية عن المجازاة، والظاهر أن {حاسبين} تمييز لقبوله من، ويجوز أن يكون حالاً.
ولما ذكر ما أتى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الذكر وحال مشركي العرب معه، وقال: {قل إنما أنذركم بالوحي} أتبعه بأنه عادة الله في أنبيائه فذكر ما آتى {موسى وهارون} إشارة إلى قصتهما مع قومهما مع ما أوتوا من الفرقان والضياء والذكر، ثم نبه على ما آتى رسوله من الذكر المبارك ثم استفهم على سبيل الذكر على إنكارهم ثم نبه على ما آتى رسوله صلى الله عليه وسلم. و{الفرقان} التوراة وهو الضياء، والذكر أي كتاباً هو فرقان وضياء، وذكر ويدل على هذا المعنى قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك ضياء وذكراً بغير واو في ضياء. وقالت فرقة: القرآن ما رزقه الله من نصره وظهور حجته وغير ذلك، مما فرق بين أمره وأمر فرعون والضياء التوراة، والذكر التذكرة والموعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف والعطف بالواو يؤذن بالتغاير. وعن ابن عباس {الفرقان} الفتح لقوله {يوم الفرقان} وعن الضحاك: فلق البحر. وعن محمد بن كعب: المخرج من الشبهات و{الذين} صفة تابعة أو مقطوعة برفع أو نصب أو بدل.
ولما ذكر التقوى ذكر ما أنتجته وهو خشية الله والإشفاق من عذاب يوم القيامة والساعة القيامة وبالغيب. قال الجمهور: يخافونه ولم يروه. وقال مقاتل: يخافون عذابه ولم يروه. وقال الزجاج: يخافونه من حيث لا يراهم أحد ورجحه ابن عطية. وقال أبو سليمان الدمشقي: يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس، والإشفاق شدة الخوف، واحتمل أن يكون قوله {وهم من الساعة مشفقون} استئناف إخبار عنهم، وأن يكون معطوفاً على صلة {الذين}، وتكون الصلة الأولى مشعرة بالتجدّد دائماً كأنها حالتهم فيما يتعلق بالدنيا، والصلة الثانية من مبتدأ وخبر عنه بالاسم المشعر بثبوت الوصف كأنها حالتهم فيما يتعلق بالآخرة.
ولما ذكر ما آتى موسى وهارون عليهما السلام أشار إلى ما آتى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال {وهذا} أي القرآن {ذكر مبارك} أي كثير منافعه غزير خبره، وجاء هنا الوصف بالاسم ثم بالجملة جرياً على الأشهر وتقدم الكلام على قوله في الأنعام {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} وبينا هناك حكمة تقديم الجملة على الاسم {أفأنتم له منكرون} استفهام إنكار وتوبيخ وهو خطاب للمشركين، والضمير في {له} عائد على ذكر وهو القرآن، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم إذا أنكر ذلك المشركون كما أنكر أسلاف اليهود ما أنزل الله على موسى عليه السلام.

1 | 2 | 3 | 4